ornina رئيس الأقسام العامة وقسم الصور
عدد المساهمات : 546 تاريخ التسجيل : 22/10/2011
| موضوع: بارتلبي ** قصة: هيرمان ميلفيل. ترجمة: عمار الحامد. الإثنين يوليو 02, 2012 12:45 pm | |
| بارتلبي
قصة: هيرمان ميلفيل. ترجمة: عمار الحامد.
إهداء:
إلى كل من منحوني اهتمامهم ووقتهم وتفاعلهم وإعجابهم على طبقٍ من المحبة الصادقة! أولئك الذين امتصوا غضبي واحتووا إنفعالاتي! أهدي هذا الجهد المتواضع ، آملاً أن ينال إستحسانهم .
مقدمة المترجم:
يسطر الكاتب في هذه القصة مأساة إنسان إنحنى أمام صولة خيول الحياة الجامحة، فوطأته بحوافر لا تفقه للرحمةِ معنى، فكان لزاماً علينا أن لا نكتفي بالشفقة عليه فحسب، وإنما نأخذ العبرة من تلكم السطور. ختاماً: شكراً على وقتكم واغفرولي بعض لغتي!
المترجم: عمار الحامد.
نبذة عن الكاتب هيرمان ميلفيل:
"هرمان ملفيل (1819-1891م) Herman Melville هو من أبرز الروائيين في أمريكا.. وُلد ملفيل هرمان في مدينة نيويورك عام 1819. له إبداعات أدبية عالية المستوى ، تمتزج فيها الحقيقة والخيال والمغامرة والرمزية البارعة .. كتب ملفيل عن تجاربه بطريقة جذابة ، جعلته أحد أكثر الكُتَّاب شعبية في زمانه . وقد أضفى على مغامراته خيالاً خصبًا وشكلاً فلسفيًا ، إلى جانب مهارةٍ فائقة في استعمال اللغة الإنجليزية الأمريكية." المصدر: الموسوعة الحرة.
[ بارتلبي ]
أنا محامي قديم، يعمل لدي ثلاث موظفين، قررت ذات يوم أنْ إعلن عن حاجتي لكاتب، فعملي أخذ يتسع أكثر من ذي قبل. لقد صادفت أناساً كثيرين طوال مسيرتي الاجتماعيةوالمهنية، بيد أن ذلك الشخص الذي جاء طالباً مقابلتي بناءاً على الإعلان كان يختلف كلياً عن جميع من صادفت ومن لم أصادف بعد، ذلك هو بارتلبي.
كان بارتلبي شخصاً نحيف البنية، متوسط الأناقة، قليل الكلام، جاداً في عمله جديةً لا أخال موظفاً تمتع بها من قبل، وليس رجماً بالغيب إنْ قلت أنْ لن تنجب الأيام موظفاً يواصل الليل بالنهار في إنجاز الاعمال الموكلة إليه كمثل بارتلبي. وكأيٍ من أرباب العمل، لا أفشي سراً إذا قلت أنني أعجبني عمل الرجل بادئ الرأي، إلا أن آلية عمله لم تكن تعجبني، فهو لا يتكلم مع زملائه ولا حتى ينظر إليهم.
في أحد الأيام، طلبت من بارتلبي أن يحضر إلى مكتبي لتدارس بعض الأوراق القانونية، ودون أن يحرك ساكناً أجابني: لا أريد. تسمرت في مكاني لبرهةٍ أمام هذا الرد الفج الذي نزل علي نزول الصاعقة، ثم قلت له وعقال اللياقة يوشك أن ينفلت: أنا أقول أريدك أن تساعدني في تدارس هذه الورقة، وأنت تقول لا أريد! ماذا تقصد بهذا؟ أخبرني! هل أنت مريض؟ وبذات الدم البارد أجابني بقول: لا أريد. عندها رن جرس الهاتف، وانشغلت مع من كان على الخط الآخر، فنسيت الموضوع بأكمله.
دعوت موظفيَ الأربعة إلى مكتبي ذات يوم لأوزع عليهم مجموعة مستندات وصلت المكتب مؤخراً وهي بحاجة إلى دراسة مستفيظة. حضر الموظفون جميعاً إلا بارتلبي، الأمر الذي جعلني أستشيط غضباً، فزعقت به قائلاً: هيا بارتلبي! تعال هنا! لا تتأخر! أنا بانتظارك! وقف أمامي صامتاً بعض الوقت، وقبل أن يستدير ويعود أدراجه، أطلق بوجهي عبارته المعتادة: لا أريد.
لم تكن دهشتي وحدها تمنعني من إتخاذ إجراء تجاه حماقات بارتلبي، وإنما شعوري بالشفقة عليه، فلقد لاحظت مع مرور الأيام أنه لا يخرج لتناول الطعام، وإنما يكتفي بما يجلبه له أحد زملائه من كعك الزنجبيل في حوالي الحادية عشر من كل صباح، ولمن أراد الحقيقة، فهو لا يغادر المكتب بتاتاً.
بعد ضهر أحد الأيام، طلبت من بارتلبي أن يذهب إلى البريد ويجلب لي بعض الرسائل، وكعادته، أجابني قائلاً: لا أريد. تركته وعدت إلى مكتبي مذهولاً، غير أني هذه المرة عقدت العزم على حل هذا الإشكال بأسرع وقت ممكن، فجلست أفكر: حسناً، إن أحد موظفيَ واسمه بارتلبي لا ينفذ أوامري، ثم أنه لا يغادر مكتبه البتة، فما العمل...
وفي عطلة نهاية الأسبوع، ذهبت إلى مكتبي لإنجاز بعض الأعمال المتراكمة، إلا أن مفتاح المكتب أبى أن يفتح معي، فوقفت مندهشاً بعض الوقت، ثم ناديت معتقداً أن أحدهم في الداخل، فكانت المفاجأة: لقد خرج بارتلبي من مكتبه ليخبرني أنه لا يريدني أن أدخل. كان مجرد التفكير في أن أحدهم يسكن مكتبي أمر يقض مضجعي، إلا أن ذات الشعور الذي يمنعني من اتخاذ إجراء بحق بارتلبي عاد ليساورني، فكان أن انسحبت بكل هدوء.
لقد قررت من يوم ذاك أن أمد يد العون لهذا المسكين، فهو ليس لديه أهل ولا حتى أصدقاء، لذا أصبح يأكل ويشرب وينام في هذا المكان. طلبت منه في صباح اليوم التالي أن يأتي إلىى مكتبي، وبعد أن أخذنا أماكننا، سألته: هلّا حدثتني عن نفسك يا بارتلبي؟ لم يجبني بشيء، وإنما ردد على مسامعي تلك العبارة التي لم أسمع منه سواها مذ بدأ العمل معي اللهم إلا اسمه، فجلست بقربه وقلت له: حسناً، لا أريدك أن تخبرني عن ماضيك، لكن عندما تنتهي من كتابة هذا المستند، أريد أن... قاطعني وهو يهم بالخروج قائلاً: لن أكتب أي شيء من الآن فصاعداً. جلست وأخذت أفكر: ماذا سأفعل يا إلاهي، فبارتلبي لا يريد أن يقوم بأي عمل؟ إذن فما الداعي لبقائه هنا؟ إذ ذاك لم يبقى أمامي سوى خيار طرده من الوظيفة، وبالفعل، أخبرته أن أمامه ستة أيام لمغادرة المكان وأنني سأصرف له مكافأة مجزية لقاء عمله معي.
في اليوم السادس، ألقيت نظرةً في مكتب بارتلبي، فوجدته لا يزال جالساً في الداخل. وكذا الحال في صبيحة اليوم التالي، حيث أتيت مبكراً، فوجدت المكتب مغلقاً من الداخل وصوت بارتلبي وهو يردد سنفونيته الخالدة يزلزل الأرض من تحتي، فما كان مني إلا أن نزلت إلى الشارع وأنا أحدث نفسي كالمجنون: كما تشاء يا بارتلبي! إذا لم تتركني وشأني، فأنا من سيرحل ويترك لك المكان!
وبعد أيام، أتيت إلى المكتب مصطحباً معي عدد من الحمالين لغرض نقل أثاث المكتب إلى مكان آخر، هنالك أكثر ما آلمني منظر المسكين بارتلبي الذي لم ينبس ببنت شفة والعمال يسحبون كرسيه أمام عينيه. اقتربت منه وودعته ثم وضعت بعض النقود في يده، لكنه تركها تسقط إلى الأرض وهو يقول بنبرة انكسار لم أعتد سماعها منه: ليس هيناً علي أن تغادر المكان بسببي، لكنني أريدك أن تتأكد أنني أتمنى أن تغادرني روحي قبل أن تغادرني أنت.
زارني أحدهم في مقر عملي الجديد بعد أيام ليبلغني أن صاحب العمارة يحملني مسؤولية إخلاء بارتلبي من مكتبي السابق بموجب أمر قضاءي، فلقد حاول الجميع ذلك لكن دون جدوى، فهو ما إن يخرج حتى يعود مجدداً مما أثار حفيظة سكان العمارة. وفعلاً، ذهبت إلى هناك ووجدته جالساً بمفرده على بلاط الشقة الأجرد، فقلت: اسمعني جيداً يا بارتلبي! أمامك أن تختار بين أمرين: فأنت إما أن توافق على العودة للعمل معي، أو أن تذهب وتعمل لدا محامي آخر. غير أنه رفض كلا الخيارين. قلت: إذن، تعال معي إلى بيتي لنفكر سوياً علنا نصل إلى حل. قال ببروده المعهود: كلا، لا أريد أن أقوم بأي تغيير. لم أجد جدوى من الحديث معه، فتركته ونزلت إلى الشارع قاصداً أحد الأماكن التأريخية علَّ تغيير المكان يساعدني في نسيان بارتلبي.
لقد تم إقتياد بارتلبي إلى السجن، هذا ما طالعني به بريدي بعد عدة أيام، فذهبت إلى هناك لزيارته. ما إن وقع نظره علي حتى قال: أعرف أنك... ولكن ليس لدي ما أقول. قلت وقد قطع منظره نياط قلبي: صدقني يا بارتلبي! لم أكن أنا من جاء بك إلى هنا... لقد أعطيت حارس السجن بعض النقود ليجلب لك بعض الطعام. رد قائلاً: لا تجهد نفسك، فأنا لا أريد أن أاكل.
ومرت الأيام، وذهبت مرة أخرى لزيارة بارتلبي في سجنه حيث أخبرني أحد الحراس أنه نائم في باحة السجن، فتوجهت من فوري إلى هناك، ورأيته نائماً لكن أيما نوم!!! كان مفترشاً الحصى الباردة، ملتحفاً السماء وقد إنطبقت ركبتاه على صدره وعيناه لا تزالان مفتوحتان. وبينا أنا أقترب منه، إذ بحارس السجن يسألني بلهجته اللا إنسانية: هل أكل اليوم أم بقي كعادته بدون طعام؟ أجبته وأنا أغلق عيني المسكين بارتلبي بعد أن تأكدت أنه فارق الحياة: كلا، لقد بقي دون طعام. قال الحارس متصنعاً الجهل بما يجري: آها! إنه نائم، أليس كذلك؟ أجبته: بلى، نائم ولكن في الفردوس الأعلى.
بعد فترة وجيزة من وفاة بارتلبي، علمت أنه قضى جُلَّ حياته موظفاً في مكتب للبريد، وإن عمله هو فك شفرات الرسائل المجهولة الوجهة، تلك الرسائل التي يعجز ساعي البريد عن إيصالها إلى من أرسلت إليهم كون عناوين هؤلاء المستلمين لم تكتب بالشكل المطلوب. تصوروا معي حجم الإحباط الذي يشعر به إنسان عاش الجزؤ الأكبر من حياته بين أكداس من المآسي، فهذه رسالة تحمل في طياتها خاتم يبعث به أحدهم وهو لا يعلم أنه سيصل إلى الإنسانة المعنية وقد أكل أصابعها التراب، وتلك حوالة بريدية يمني مرسلها النفس بإنقاذ حياة شخص عزيز، لكنها تأبا إلا أن تصل بعد فوات الأوان، نعم، إنها رسائل تنبظ بالأمل مرسلة لأشخاص ماتوا دون أدنى بارقة أمل، رسائل ملعونة تقتل الأمل حتى في داخل موظف البريد المسؤول عن تحليلها. ولهي عليك يا بارتلبي! ولهي عليكِ أيتها الإنسانية!
تمت
| |
|