موضوع: ماهو النظام السياسي الملائم للعرب ؟ - د.منذر خدام السبت نوفمبر 03, 2012 5:33 am
لا يزال البحث عن النظام السياسي الملائم للعرب غير منته! بداية ينبغي التذكير أن مفاهيم مثل الشعب والوطن والدولة والسلطة، والمواطن وغيرها كثير من حوامل النظام السياسي هي مفاهيم غير نهائية، بل تصير، ويصير معها بالتالي مفهوم النظام السياسي ذاته ، وما يتفرع عنه من مفاهيم الحرية والديمقراطية والقانون وغيرها كثير أيضاً. وهي تصير في سياق تفاعل معقد بين ما هو اجتماعي- اقتصادي لتشكل منظومات إدراكية معرفية تنتج بدورها ثقافة حاضنة لما سبق ذكره من هذه المفاهيم الاجتماعية السياسية. وإذ تصير فهي لا تقطع مع تاريخها، بل تدمج في داخلها الكثير من خصائص هذا التاريخ التي سرعان ما تستدعى إلى سطح الفعالية البشرية لتؤدي دورا أو أدوارا فيه بحسب مصالح الفواعل الاجتماعية ، أو بحسب وعيها لهذه المصالح . وهنا ينبغي التمييز بين المصالح كما هي فعلا في منطق التاريخ، باعتباره منطقا نقديا تجاوزيا تقدميا ، ترسم على منحاه ، في المحصلة ، مساراً تصاعديا بصورة عامة ، وبين وعي هذه المصالح كما تبدو على مسرح الفعالية البشرية . هذه الأخيرة هي التي تحرك مختلف الفئات الاجتماعية "للتفاعل" أو للإكراه في سبيل تحقيق مصالحها كما هي في وعيها الراهن. والوعي الراهن قد يتطابق مع المصالح كما هي فعلا في منطق التاريخ ، وفي هذه الحالة يغلب التفاعل الاجتماعي على آليات تحقيقها، بحيث يحقق التاريخ من خلالها منطقه كمسار مفتوح على التجاوز والتقدم. لكنه قد لا يتطابق معها ، وفي هذه الحالة يغلب الإكراه كوسيلة لفرض المصالح ، فيرغم التاريخ على التفارق مع منطقه والسير في مسار دائري يعيد إنتاجه الموسع باستمرار.
لتفسير ما قد يبدو أحجية نكثف ما افتكرناه أعلاه في عبارة واحدة تبدو سهله: المسار الأول الذي وصفناه بالمنفتح والتجاوزي هو مسار الأنظمة السياسية الديمقراطية، أما المسار الثاني الذي وصفناه بالدائري فهو مسار الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية . لعل عبارتنا الأخيرة أزالت بعض الغموض ، لكنها أثارت في المقابل أسئلة جديدة ، كل سؤال منها يخفي أحجية . مثلاً هل قدر شعوب بعينها أن تسلك المسار الأول، في حين قدر شعوب أخرى أن تسلك المسار الثاني؟!. المسألة بالتأكيد خارج نطاق أي قدر، إنها في مسار التاريخ الحي، حيث ثمة ما يدفعها في المسار الأول أو في المسار الثاني، وهذا ما ينبغي القبض عليه وإدراكه . أضرب مثلا من واقعنا العربي: من المعلوم أن البشرية قد بدأت منذ بضعة قرون بالدخول في حقبة تاريخية جديدة هي الحقبة الرأسمالية، التي يتميز منطقها بضرورة تطابق نمط الإنتاج مع أسلوب الإنتاج المهيمن فيها . يتحقق هذا التطابق عبر جدليات الصراع الاجتماعي المفتوحة دائما على النقد والتجاوز الذي يتحقق في مناخات الحرية والديمقراطية والقانون . بكلام آخر فإن النظام السياسي الديمقراطي بأشكاله المختلفة هو النظام المطابق للرأسمالية من حيث الجوهر، سرعان ما تستدعيه عند كل انحراف فيه عن جوهرها. وإن أنسنة هذا النظام ، واعتباره نتاج الإنسانية جمعاء ، لا يغير من حقيقته الرأسمالية، بل يؤكد على أن الرأسمالية ذاتها ٌقد أخذت أبعاداً كونية. إن الدخول في هذه الحقبة التاريخية لم يكن واحداً لدى مختلف الشعوب، نظرا لتفاوت مستويات تطورها من جهة، ولخصوصيات لا تزال فاعلة في مسارها التاريخي الخاص من جهة ثانية . منطق التاريخ هذا يقتضي إذا من الشعوب العربية أن تطور نمط الإنتاج الرأسمالي في بلدانها ليتطابق مع أسلوب الإنتاج الرأسمالي، بما يعنيه ذلك على وجه الخصوص من قطع مع منظومات إدراكية ومعرفية وأخلاقية وجمالية سابقة على الرأسمالية، مما يؤدي بالنتيجة إلى القطع مع النظام السياسي الخلدوني المستمر منذ قرون عديدة، باعتبار ذلك القطع من الروافع الأساسية للتقدم ، وللدخول في حداثة العصر. والتطابق المطلوب هنا لا يعني إزاحة كاملة ونهائية لأنماط الإنتاج غير الرأسمالية، بل تهميش فعاليتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والأشكال التي تظهر بها في المجتمع، وخصوصا في تنظيم وإدارة الدولة . بدلا من ذلك تجري باستمرار عملية تراكم متسارعة في إطار أسلوب الإنتاج الرأسمالي، مع المحافظة على منظومات معرفية وإدراكية ماضوية ، وأشكال للتنظيم السياسي مفوتة ، وبالتالي فاشلة ، لتجيب عن أسئلة الراهن. إن التعارض الآخذ بالتعمق بين أسلوب الإنتاج الرأسمالي، بما هو تعبير عن علاقات الإنتاج التي ميدانها الرئيسي هو الاقتصاد، وبين نمط الإنتاج بما هو تعبير عن منظومات معرفية وإدراكية وقيمية وجمالية ، وأشكال تنظيمها، تشكل المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية ميادينها الرئيسية ، ما كان له أن يستمر حتى الآن ، عداك عن احتمال استمراره في المستقبل غير المنظور ، لولا وجود قوة أصيلة عابرة للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية ، لا تزال في كامل طاقتها الحيوية ، تحافظ عليه وتصونه ، وتعيد إنتاجه في مساره الدائري، تتمثل هذه القوة في الدين تحديداً . والدين المقصود هنا ليس جانبه الطقوسي، الذي يعيد التذكير به ويجعله حاضرا دائما في حياتنا، بل وجانبه القيمي- الأخلاقي، والمعرفي –الإدراكي، والأيديولوجي، والسياسي – الاجتماعي التي تتكاثف في تكوين الإنسان العربي لتشكل منه كائنا ثقافيا من طراز خاص. والخصوصية المقصودة هنا تتجاوز الطابع الديني للإنسان العربي، إلى كونه منتجا للدين وحارسا له، ومحافظا عليه. في كون الإنسان العربي متدينا لا يميزه عن غيره من المسلمين أو المسحيحين أو اليهود أو غيرهم ، بل في كونه منتجا للدين ومحافظا عليه. البلدان الإسلامية الأخرى ليس لديها مكة أو المدينة ، أو القدس أو مراقد علي وأولاده وأحفاده، وما يلازمهما من طقوس الحج ، أو الجامع الأموي ورمزيته ، أو جامعة الأزهر ، أو جامع الزيتونة وغيرها كثير . وليس لديهم لغة مقدسة ينطقون بها، وليس لديهم حجم الذكريات الحية مثل العرب عن خلافة أموية وعباسية، وأمجاد حضارة يعيد إنتاجها الحلم، أو الوهم لا فرق . وأكثر من ذلك لقد حفظ الدين في العربي روح القبيلة والعشيرة فكانت الحاضر الدائم في منطق العربي ومنظومة إدراكه ، وعلاقاته . باختصار شديد لا يمكن فهم الشخصية العربية بمعزل عن تكوينها الديني . والشخصية الدينية في المستوى السياسي هي بالضرورة شخصية استبدادية ، لأن الديني هنا ملازم للحقيقة ، ومن يدعي امتلاك الحقيقة فهو ديني بامتياز ، سواء كان مقرا بدينيته أو ناكراً لها، إسلاميا أو شيوعيا ، قوميا أو ليبراليا لا فرق .
بتكثيف وجوابا على السؤال : ما هو النظام السياسي الملائم للعرب ؟ أقول هو النظام الاستبدادي بامتياز . بلا شك ثمة محاولات جرت وتجري باستمرار للقطع مع هذا النظام ، لكنها جميعها كانت تنتهي إلى إعادة إنتاجه ، وهذا يفسر التشابه إلى حد التطابق بين آليات اشتغال الأنظمة الجمهورية والملكية العربية ، الأنظمة التقليدية أو تلك التي جاءت من رحم الشرعية الثورية . بل والتشابه يكاد يكون عميقا بين القوى السياسية والاجتماعية التي تزعم مناهضتها للاستبداد فيما يسمى المعارضة ، مما يحدد كونها قوى استبدالية للاستبداد وليست نقيضة له ، تعيده إلى مساره الدائري . ومما ساعد على بقاء النظام السياسي الاستبدادي العربي، وإعادة إنتاجه ، الدور الذي أدته القوى المهيمنة في النظام الرأسمالي العالمي ، وتحديدا الدور الأوربي والأمريكي ، خدمة لمصالحها الكبيرة والكثيرة في عالمنا العربي، وخصوصا مصلحتها في منع العرب من التوحد وتوظيف ثرواتهم في مصلحة شعوبهم ، الأمر الذي توج بإنشاء إسرائيل كجزء من مشروع استراتيجي لتحقيق هذه المصالح . وعلى ذكر إسرائيل أفتح قوسين لأطرح تساؤلا: هل كان من الممكن أن ينجح المشروع الصهيوني لولا الراية الدينية التي رفعها؟ مع العلم أن أغلبية اليهود الصهاينة ليسو متدينين؟! إنه الخطاب الملائم لبيئة ملائمة. وبالعودة إلى تحليل الأسباب الداخلية التي تستدعي بقاء النظام الاستبدادي ، في محاولة للقبض عليها معرفيا، وتوظيف ذلك لاحقا في عكس اتجاه فعلها للقطع معه أقول ، إن التراكم الرأسمالي الهام الذي حصل على صعيد علاقات الإنتاج ، وهو تراكم لا يمكن إيقافه موضوعيا ، سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق ما يطابقه على مستوى البناء الفوقي لنمط الإنتاج ، لكن نهاية المطاف هذه غير محددة وغير مؤكدة إلا على المستوى النظري . ثمة أمثلة شديدة الوضوح من عالمنا العربي على قدرة مستويات البناء الفوقي السياسية والأخلاقية والجمالية، ومنظوماتها الإدراكية- المعرفية غير الرأسمالية على التكيف مع أسلوب الإنتاج الرأسمالي وإعادة إنتاج ذاتها رغم التوسع التراكمي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي. في العقدين الماضيين جرت تحولات عميقة على الصعيد العالمي باتجاه التحول نحو الديمقراطية في الحياة السياسية، جرت هذه التحولات في الدول الاشتراكية السابقة، كما جرت في أمريكا اللاتينية ، وفي أسيا وحتى في أفريقيا، وبقي العالم العربي صامداً . وحتى تلك التحولات الشكلية التي حصلت في بعض البلدان العربية سرعان ما ارتدت إلى حواضنها الاجتماعية الأهلية التي يشكل الاستبداد نظامها السياسي المطابق ، لأنها ببساطة بنى دينية . لا يوجد سؤال يستدعي الخصوصية العربية مثل سؤال الديمقراطية والحرية . والخصوصية هذه لا تصدر فقط عمن هم في السلطة، بل وعن جميع تنظيمات المجتمع وأشكال وجوده. نحن مجتمع له خصوصيته ، جواب يكاد يكون واحداً على ألسنة الجميع، والخصوصية هنا تعني الرفض للحرية والديمقراطية باعتبارهما غير ملائمتين لنا .
وفي تفسير "غير ملائمة" تساق حجج عديدة واهية كرسنا ، وكرس غيرنا جهدا ثقافيا كبيراً لتبيان زيفها. من هذه الحجج : أولاً إن الحرية والديمقراطية هما نتاج الغرب العلماني . وثانياً يؤديان إلى تزرير المجتمع إلى بناه الأهلية الدينية والأقوامية . وثالثاً ليس لدينا خبرة في الممارسة الديمقراطية . ورابعا الديمقراطية تتطلب العلمانية، وهذه الأخيرة لا تتعايش مع الدين. وأخيراً تتطلب الديمقراطية مستوى عال من التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي . في ضوء ذلك يمكن القول بثقة إن المطالبين حقيقة بالحرية والديمقراطية في عالمنا العربي هم المنشقون، وهم قلة قليلة من المثقفين، الذين يعيشون الحلم واقعا، مع ذلك فهو حلم جميل سوف نظل نصدح به قائلين : متى يدرك العرب أن مصلحتهم تكمن في الحرية والديمقراطية.
وبالعودة إلى السؤال : ما هو النظام السياسي الملائم للعرب ؟ الذي أثار النقاش فإن ما توصلنا إليه من تأكيد على ملائمة النظام الاستبدادي للعرب ، لم يكن هو الجواب المستهدف ، بل النظام البديل الممكن والمحتمل . مع ذلك ما كان بالإمكان أن يكون البحث عن البديل ممكنا لولا الاستكشاف الذي قمنا به ، والذي توصلنا بنتيجته إلى أن مطلب الحرية والديمقراطية ليس مطلبا حقيقيا ، ولا جدياً ، لدى مختلف الفئات الاجتماعية ، وخاصة تلك الفاعلة منها ، مثل النخب السياسية والثقافية والعسكرية والاقتصادية . بل إن هذه النخب تشكل مع بعضها طغمة من النمط الأوليغارشي الذي يعيد إنتاج الاستبداد باستمرار بسبب من طبيعتها الدينية ، بالمعنى الذي حددناه . ولا يبقى بالتالي من حاضنة لسؤال الحرية والديمقراطية سوى المنشقين الهامشيين من هذه النخب . هذا يعني أن سؤال الحرية والديمقراطية سوف يظل يتحرك في الحقل الثقافي في المستقبل غير المنظور ، وجوابه أو أجوبته سوف تكون متخيلة إلى حد بعيد . مع ذلك هكذا تبدأ رحلة الألف ميل بخطوة ، وما يبدو أنه متخيلا في الوقت الراهن سرعان ما سوف يستجمع قوى واقعية مع الزمن ، بفضل الجهد الثقافي المتاح جزئا ، وبفضل الجهد الاجتماعي والسياسي الذي سوف يضاف لاحقا ، من جراء الواقع المأزوم للاستبداد ذاته ، ومن جراء التحولات الجارية عالمي ا. لم تعد الرأسمالية في مرحلة العولمة تتحمل وجود بنى اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية غير معولمة . إن النظام السياسي البديل للاستبداد هو بلا شك نظام ديمقراطي ، لكنه النظام الذي سوف ينشأ من الحاضنة المحلية ، وسوف يشبه ذاته فقط . ما هو هذا النظام الديمقراطي العربي الذي يشبه ذاته فقط ؟ يمكن إيجاده في عشرات المقالات والدراسات التي كتبناها تنظيرا له ، وخصوا في مشروع رؤية لبرنامج سياسي ، وجميعها منشورة على الشبكة العنكبوتية ، وكذلك في كتابنا أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة .