لقد سُكِنَتْ منطقة "أبي هريرة" في الفترة الفخارية وذلك في حوالي الألف السابع قبل الميلاد، وأنَّ هذا الاستيطان استمر حتى الألف السادس قبل الميلاد عندما هُجر الموقع نهائياً.
وتنقسم فترة الاستيطان في العصر الحجري الحديث إلى ثلاث مراحل استناداً إلى أصناف اللقى الصوانية...
فالمرحلتان الأولى والثانية تعودان إلى العصر الحجري الحديث "قبل الفخار"، أما الفترة الثالثة فإنها تعود إلى الفترة الفخارية من العصر الحجري الحديث الألف السادس قبل الميلاد.
لقد أشارت التنقيبات الأثرية في الموقع، إلى أنَّ أولى المنشآت السكنية من هذه الفترة أقيمت في الجزء الجنوبي من مستوطنة العصر الحجري الوسيط، وخلال المراحل اللاحقة توسع السكن في القرية حتى شمل التل بكامله.
كانت أبعاد المستوطنة تمتد بين /400/ م طولاً و/300 /م عرضاً، أي بواقع /12/ هكتاراً تقريباً، وبذلك تكون مستوطنة "أبي هريرة " من أكبر المستوطنات في سورية خلال فترة العصر الحجري الوسيط.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]لقد كانت أبنية هذه الفترة كبيرة الحجم، وذات غرف واسعة نسبياً ومستقيمة الأبعاد، جُلها بنيت من الطين المجفف المضغوط، وللمنزل الواحد عدة غرف ، وذات جدران قليلة السماكة ، وهي ذات طابق واحد ، ولم يُعْثَرْ على دلائل أثرية تشير إلى عكس ذلك، وكان لبعض البيوت بهو مستطيل ، يفصل بين غرفتين ، وبعضها الآخر له مستودعات أرضية ، وفتحات في الجدران كانت تستخدم للتخزين
كما أنَّ الأرضيات والأجزاء السفلية من الجدران كانت مدهونة بطبقة من مادة الجص الأبيض ، وأحياناً كانت تدهن باللون الأسود أو الأحمر ، وغالباً ما تكون هذه الأصباغ ملمعة ، وقد توجهت بالسؤال للبروفيسور "ماك واير غبسون"، وهو آثاري مختص بمرحلة ما قبل التاريخ ، وقد عملنا سوية في موقع تل "حمو كار" الواقع في أقصى شرق سورية ، عن سبب استعمال هذه الألوان، فأجاب قائلاً: «هذا بالتأكيد مؤشر لوجود اعتقادات دينية بدائية».
كان في بعض الغرف مصطبة متوضعة في أحد الزوايا مطلية بطبقة من مادة الجص، وفي بعض الغرف موقد نار كان
يستخدم للتدفئة. وحتى وقت قريب كان أغلب سكان بعض القرى في مناطق مختلفة من سورية، وفي مناطق كثيرة من العالم يطهون الطعام في العراء الطلق،
وكذلك كان سكان قرية "أبو هريرة" القدماء يطهون الطعام في العراء الطلق أيضاً.
لقد استدل المنقبون على ذلك من خلال عثورهم على كميات كبيرة من العظام والرماد في القسم الخارجي من البيت، وكانت البيوت السكنية مفصولة عن بعضها بواسطة دروب ضيقة، مما يؤكد أن القرية كانت مكتظة بالسكان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]قطع عظمية عليها رسومات
كان سكان قرية "أبي هريرة" في العصر الحجري الحديث مثل سكان "تل المريبط" على الضفة المقابلة من النهر، وأيضاً مثل سكان تل "الجرف الأحمر" على الفرات الأعلى
يدفنون موتاهم تحت أرضية الغرف، وفي قبور سطحية في ساحات البيوت، وكانت الجثث تدفن إما بشكل إفرادي أو بشكل جماعي، وغالباً ما يكون الرأس مفصولاً عن الجسد ويدفن وحده ، وكانت بعض أجساد الموتى تدفن ملفوفةً بعد دهنها بصبغ "المغرة" الحمراء وهذا يدل على أنّ الناس في تلك الفترة كانوا يشعرون بفقد عزيز عليهم .
وإلى فترة العصر الحجري الحديث تعود مجموعة من اللقى الأثرية ، تم العثور عليها أثناء فترة التنقيب الأثري في الموقع،
مثل الإكسسوارات التي كانت تستعمل للزينة ، وقطع حجرية مصنوعة من مادة الصوان العادي، وبعض الأدوات المصنوعة من الصوان البركاني ، وهناك مجموعة كبيرة من المقاشط والسهام والمثاقب صنعت بدقة متناهية بواسطة الحك والتقشير.
أما الوسائل التي كانت تساعد في الأعمال اليومية، وفي الدفاع عن النفس، فقد صنعت من الصخور مثل المحكات والفؤوس والأزاميل وغيرها،
كما أنَّ العظام استخدمت لصنع المثاقب والإبر والخرز، ووجدت مصنوعات كثيرة، منها ما هو مصنوع من الحجر الأخضر وحجر الكوارتز
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] وفي طبقات العصر الحجري الحديث عثر المنقبون على كسر فخارية تؤكد أنَّ الفخار كان مستعملاً في تلك الفترة، وقد عثر المنقبون على كسر فخارية لإناء من الفخار مطلي بألوان بنية وسوداء، وبعض الكسر الفخارية الأخرى هي أجزاء من جرار كان
عليها زخارف منفذة بألوان حمراء ، وهذه البضاعة ذات اللون الفاتح وجد لها شبيه في مواقع أخرى من سورية من فترة العصر الحجري الحديث مثل موقع "رأس شمرا " VBL و"العمق" A و"بقرص" ( III )، وبالقرب من قلعة "حمص"، و"تل الحديدي" على الفرات بالقرب من تل "الممباقة"
وهناك دلائل وشواهد أثرية تشير إلى أنَّ السكان في تل "أبي هريرة" مارسوا بعض الصناعات اليدوية مثل، صنع السلال من القصب النهري ، وصناعة السجاد والغزل خاصة وأن المنقبين قد عثروا على مجموعة من مبارم الغزل الحجرية التي استمر استعمالها بكثرة خلال العصور اللاحقة.
كانت المواد الخام تجلب من أماكن بعيدة عن طريق التجارة من "الأناضول"، ومن "مصر" بواسطة قوافل الحمير ، فالصوان البركاني كان يجلب من "الأناضول"، والفيروز من "مصر"، واللؤلؤ والمرجان من "الخليج العربي"، والمواد الأخرى مثل القار والبازلت وحجر الهيماتيت من المناطق المجاورة
وهذا يشير إلى وجود علاقات متطورة ومنتظمة بين سكان مستوطنة تل "أبي هريرة" ومناطق عديدة في الشرق الأوسط.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]من فخار وادي الفرات
كان سكان مستوطنة تل "أبي هريرة" مثلهم مثل المستوطنات الأخرى من تلك الفترة يعتمدون على الزراعة في قُوتِهمْ ، إذ أنَّهم كانوا يزرعون كافة أنواع الحبوب والبقوليات، مثل الفول والعدس والبازلاء وغيرها، ويجمعون بعض الثمار البرية مثل العنب والكمون،
وكان السكان يربون أنواعاً كثيرة من الحيوانات التي تؤكل، مثل الماعز والأغنام.
إنَّ التنقيبات الأثرية في موقع "أبي هريرة" كانت فرصة طيبة للتعرف على حضارة وادي "الفرات" في فترتي العصر الحجري الوسيط والعصر الحجري الحديث.